+فهرست عناوين |
في المصادر العربية
{ مؤسسة تراث الشيعة
المؤتمر العالمي للشهيدين
3
الشهيد الثاني في المصادر العربية
مؤسسة تراث الشيعة
* الناشر : مركز العلوم والثقافة الاسلامية
معاونية الابحاث لمكتب الاعلام الاسلامي في الحوزة العلمية، قم المقدسة
* المؤتمر العالمي للشهيدين
* الطباعة: مطبعة الباقري
* الطبعة الأولي: 1430 ق/ 2009 م
* الكمّيّة: 1000 نسخة
* السعر: 7500 تومان; سعر مجلّد: 8500 تومان
* العنوان: 99; التسلسل: 148
حقوق الطبع محفوظة للناشر
العنوان: قم، شارع شهداء (صفائية)، زقاق آمار، الرقم 42
التلفون والفاكس: 7832833، التوزيع: قم 7832834 ; طهران 5 ـ 88940303
ص.ب: 3858/37185، الرمز البريدي: 16439ـ37156
وب سايت: www.isca.ac.ir
البريد الالكتروني: nashr@isca.ac.ir
كنگره بين المللي شهيدين (1388: قم).
الشهيد الثاني زين الدين بن علي العاملي في المصادر العربية / كنگره بين المللي شهيدين.ـ قم: دفتر تبليغات اسلامي حوزه علميه قم، معاونت پژوهشي، پژوهشگاه علوم و فرهنگ اسلامي، 1388.
540 ص.
850000 ريال: ISBN:978-600-5570-03-8
فهرستنويسي بر اساس اطلاعات فيپا.
كتابنامه.
1. شهيد ثاني، زين الدين بن علي، 911 ـ 965 ق.ـ كنگره ها. 2. شهيد ثاني، زين الدين بن علي، 911 ـ 965 ق.ـ سرگذشت نامه و كتاب شناسي ـ كنگره ها. 3. شهيد ثاني، زين الدين بن علي، 911 ـ 965 ق.ـ مقاله ها و خطابه ها. الف. دفتر تبليغات اسلامي حوزه علميه قم. معاونت پژوهشي. پژوهشگاه علوم و فرهنگ اسلامي. ب. عنوان.
9 ك 93 ش /5/ 153 BP 3924/297
]9 ك 93 ش / 3 / 55 [BP ]998/297[
يتبلور العلم والفكر في حاضنة التاريخ، ويطويان طريق الكمال والرقي عبر منعرجاته ودهاليزه، وتاريخ العلم هو حلقات متّصلة ببعضها تحكي قصص شخصيات عظيمة ورائدة انضفرت جواهر أرواحهم بلحمته وسداه فتركوا أعمالا عظيمة خلّدتهم عبر الازمان. فأصبح هذا الخلف مديناً في أفكاره لجهود ذاك السلف، من هنا فإنّ تكريم علماء وروّاد كل علم هو بمثابة تكريم لذلك العلم وإعلاءٌ لشأنه. ويعدّ الشهيدان أبو عبد الله شمس الدين محمد بن مكي العاملي الملقّب بالشهيد الاول (786 ـ ح 724 هـ ) وزين الدين بن علي الملقّب بالشهيد الثاني (911 ـ 965 هـ ) نجوماً ساطعة في سماء ذلك السلف العظيم.
إنّ نشأة ذينكما الشهيدين الخالدين في ربوع الجبال الشمّاء في منطقة جبل عامل اللبنانية، وتنفسّهما من نسيم البحر المتوسّط العليلة، كانتا من جملة ما حباهما الخالق به، لتمتلئ روحيهما بالصفات المتعالية، ولتنبني تجربتهما العلمية في إطار من التسامح وسعة الصدر وبُعد النظر.
إنّ آثار هذين العَلَمين في حقل الفقه والتشريع كانت من التأثير بحيث لا يمكن لاي باحث أو محقّق الاستغناء عنها، وما من مدرسة فقهية تشكّلت دون أن تستعين بأفكارهما وآرائهما الرصينة السديدة، لا سيّما فقه الشهيد الاول الذي أشعل الشرارة الاولي لسلسلة التحوّلات في الفكر الفقهي، وكان المُلْهم للعديد من المناهج الناشطة في مجال الاستنباط الفقهي.
بيد أنّ ريادتهما في علم الفقه والاصول، ينبغي ألاّ تصرف الاهتمام عن إلمامهما وإحاطتهما في سائر الفروع والعلوم الدقيقة، وألاّ تحجب النظر عن تبحّرهما ودقّتهما في المسائل القرآنية والحديثية والكلامية والاخلاقية والعرفانية، علي الرغم من أنّ تألّق أحد جوانب شخصيّتهما قد يطغي علي سائر الجوانب الاخري، وإنّ تنوّع الفنون هذا وخاصّة في علم الاخلاق النظري بالنسبة للشهيد الثاني، ربّما كان له حضور أقوي، لكنّ مسيرة التحوّلات في حياتهما تبيّن أنّ كليهما كانت له اليد الطولي في الاخلاق العملية وأنّهما كانا قدوتين لاهل السير والسلوك إلي الله ولطلبة العلم والعمل.
إنّ إبداعات الشهيدين في مجال العلم ولا سيّما عمق استدلالاتهما ودقة استنباطهما والتي كانت المفتاح لحلّ المعضلات العلمية والفكرية، قد جعلت من هذين الفطحلين دليلين لعلماء ونخب
عصرهما، لا بل خلّدت حضورهما في عرصة تاريخ العلم.
إنّ العلاقات الفكرية والعلمية للشهيدين مع علماء الفرق الاسلامية الاخري، ودورهما في التقريب بين المذاهب الاسلامية، جعل منهما مرجعين وملاذين للخواص والعوام، فكانا بحقّ مؤسّسين لنهج تجديدي في الفقه المقارن، الامر الذي أتاح لبركات وجودهما أن تنتشر في جميع المناطق والمذاهب دون قيود أو حدود، وأن يكون تراثهما نبراساً يشعّ ضياءً ونوراً علي طلاب الحقيقة.
إنّ ظهور شخصيات مشهورة ومؤثّرة من هاتين الاسرتين وبالاخصّ الخلفين الصالحين للشهيد الثاني ونقصد «صاحب المعالم» و«صاحب المدارك»، لهو تعبير صادق عن أصالة وشرف المحتّد للشهيدين السعيدين وعراقة مدرستيهما التربوية.
وأهمّ من كلّ ذلك، صلابتهما وشجاعتهما في قول كلمة الحقّ والدفاع عنها، حتي أدّي ذلك بهما إلي التضحية بروحيهما الطاهرتين علي مذبح الدفاع عن الرسالة، فنالا عزّ الشهادة ليُكتب اسميهما في الشهداء والصالحين، وليكونا مشعلين مضيئين لحرّاس الملحمة الخالدة.
في ضوء كلّ ما تقدّم، قامت أكاديمية العلوم والثقافة الاسلامية بوضع المؤتمر العالمي لتكريم الشهيدين السعيدين ضمن برنامج المؤتمرات العالمية للعقد القادم، وفي هذا الصدد، أناطت مسؤولية جمع وإحياء تراثهما وتحقيقه وتنقيحه، والبحث في سيرتهما وأفكارهما وآرائهما، أناطت هذه المسؤولية بباحثين أكفاء ذوي خبرة ومهارة. لذا، يسرّنا بالغ السرور ونحن علي أعتاب انعقاد المؤتمر المذكور، أن نقدّم للمهتمّين بالاضافة إلي موسوعة الشهيد الاوّل وإعداد موسوعة الشهيد الثاني، سيرة الشهيدين باللغتين العربية والفارسية والانجليزية (أربعة مجلدات)، حياة الشهيد الاول والشهيد الثاني (مجلّدان) مجموعة مقالات باللغتين الفارسية والعربية (ثلاثة مجلدات) والترجمة الفارسية لبعض تراث الشهيدين.
في الختام، نجد لزاماً علينا توجيه الشكر الجزيل لجميع المفكرين والباحثين الذي ساهموا في إعداد هذه الموسوعة، كما نوجّه خالص الشكر والتقدير لسماحة حجة الاسلام والمسلمين السيد حسن رباني رئيس مكتب الاعلام الاسلامي المحترم لدعمه اللامحدود وإشرافه علي تفاصيل مجريات الاعداد للمؤتمر، كما نوجّه شكرنا وتقديرنا إلي هيئة وضع السياسات، والهيئة العلمية للمؤتمر، ومدير دار النشر التابعة للاكاديمية وكافة العاملين في الامانة العامة للمؤتمرات العالمية الذين بذلوا جهوداً حثيثة لكي تحقّق النشاطات العلمية والاجرائية للمؤتمر النتائج المرجوّة ونسأل الله العلي القدير أن يمنّ عليهم بالثواب الجزيل فهو خير مُثيب.
محمدجواد صاحبي
رئيس اللجنة العلمية للمؤتمر العالمي لتكريم الشهيدين
أحمد مبلغي
رئيس أكاديمية العلوم والثقافة الاسلامية في الحوزة العلمية بقم
و مسؤول قسم البحوث في مكتب الاعلام الاسلامي
تصدير مؤسسة تراث الشيعة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله ربّ العالمين ، وصلّي الله علي سيّدنا ونبيّنا أفضل الخلائق أجمعين
ووصيّه وخليفته عليّ أمير المؤمنين وآله الطيبّين الطاهرين
ولعنة الله علي أعدائهم أبدالآبدين ودهر الداهرين.
السلام علي الإمام المهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلا.
العالم الورع والفقيه المحقّق الشيخ زين الدين بن علي بن أحمد العاملي الشامي (911 ـ 965) المعروف بالشهيد الثاني من مشاهير الفقهاء المتبحّرين العظام و من الوجوه المشرقة في التاريخ الدموي للإسلام.
وردت ترجمة هذا العالم المجاهد الدؤوب في كثير من كتب التراجم سنورد أهمّ مطالبها. وقد كتب الشهيد نفسُه رسالةً خاصّة في حياته، ضَمَّنها تلميذه العالم الجليل ابن العودي في رسالة كتبها في تاريخ حياة أُستاده سمّاها بغية المريد في الكشف عن أحوال الشيخ زين الدين الشهيد و نأسف أن قد فقد أكثر فصول هذه الرسالة و لم يبق إلّا بعض الفصول منها أوردها الشيخ علي بن محمّد بن الحسن بن زين الدين، حفيد ابن الشهيد في كتابه الدّر المنثور و قد حقّقنا رسالة الشهيد في ترجمة نفسه و أدرجناها في رسائل الشهيد الثاني وقد طبع الدّر المنثور قبل عدة أعوام مليئاً بالأخطاء وستنشر محقّقاً بتحقيق مركز إحياء التراث الإسلامي في قم، و نقلنا مطالبه في أوّل كتابنا هذا من تحقيق مركز إحياء التراث الإسلامي، وهو الآن قيد التحقيق. وقسّمنا هذا الكتاب إلي ثلاثة أقسام:
القسم الأوّل: المصادر المشتملة;
القسم الثاني: البحوث و المقالات المفردة;
القسم الثالث: أُسرة الشهيد الثاني.
وأوردنا مطالب المصادر الفارسية في كتاب آخر تحت عنوان شناختنامه شهيدين بالفارسية وذكرنا في مقدمة ذاك الكتاب المصادر التي لايوجد فيها شيء مهمّ حول الشهيد الثاني و آثاره وأُسرته، وبذلنا جهدنا أن لانورد المطالب المتكرّرة حسب الإمكان.
ومن المؤسف أنّا نجد في تأريخ حياة الشهيد الثاني و كتبه و تاريخ تأليفها وغير ذلك أخطاءً متعدّدة، وحيث لم يكن من المتداول سابقاً التحليل والتحقيق في التاريخ، لذلك كان المتأخّرون إذا وجدوا موضوعاً في كتاب التاريخ أو التراجم نقلوا ذلك في كتبهم بدون أيّ تحقيق أو تحليل أو مقارنة بالقرائن والشواهد التاريخية الأخري، وكانت هذه الأخطاء بالتدريج تتحوّل إلي أغلاط مشهورة تتكرّر في الكتب المأخّرة لمحض الاستناد إلي ذكرها في ذلك الكتاب السابق.
ولا يتحمّل هذا الكتاب بيان هذه الأخطاء وسنوردها مع تصحيحها وبيان وجه خطئها في كتاب مفرد في ترجمة الشهيد سمّيناها الشهيد الثاني: حياته و آثاره، سينشر في سلسلة «أعلام الشيعة» من قبل هذه المؤسسة أعني مؤسَّسة تراث الشيعة.
ومن الجدير بالذكر أنّ مطالب المصادر العربية والفارسية و الانجيليزية دُوَّن في أربعة مجلّدات:
المجلّد الأوّل: شناختنامه شهيدين بالفارسية، وهو يحتوي علي مطالب المصادر الفارسية في ترجمة الشهيدين.
المجلد الثاني: الشهيد الأوّل محمد بن مكي العاملي في المصادر العربية.
المجلد الثالث: الشهيد الثاني زين الدين بن علي العاملي في المصادر العربية، وهو هذا الكتاب.
المجلد الرابع: الشهيدان في المصادر الانجيليزية.
و آخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
قم، مؤسَّسة تراث الشيعة (مؤسسه كتابشناسي شيعه)
صفر المظفر 1430
المصادر المشتملة
الفصل الأوّل: آثار علماء الخاصّة
الفصل الثاني: آثار علماء العامّة
(1)
] رسالة: بغية المريد في الكشف عن أحوال الشهيد[
ومن ذلك نبذة من تاريخ جدّي المبرور العالم الربّاني زين الملّة والدين الشهير بـ« الشهيد الثاني » (قدّس الله تربته وأعلي في علّيّين رتبته)، وهو الذي ألّفه الشيخ الفاضل الأجلّ محمّد بن عليّ بن حسن العودي الجزّيني ، أحد تلامذته (رحمه الله تعالي) ، وهذا الكتاب قد ذهب فيما ذهب من الكتب ، ووقع في يدي منه أوراق بقيت من نسخة أحببت أن أنقلها في هذا الكتاب ، تيمّناً بذكر بعض أحواله .
قال المؤلّف (رحمة الله تعالي) :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رافع درجات العلماء إلي سماك السماء ، وناصب أعلام أجر الشهداء يوم العرض بين الملأ ، وخافض من شكّ في فضلهم إلي ما تحت الثري ، وجاعل من جزم بتعظيم قدرهم معهم في الرفيق الأعلي(2) ، والصلاة علي رسوله محمّدخاتم الأنبياء ، وعلي آله الأطهار الأصفياء ، وأصحابه الأخيار النجباء .
وبعد : فإنّ أحقّ ما اُودع في الطروس ، وتوجّهت إليه النفوس ، من فنّ التواريخ المحفوظة
1 اقتبسنا مطالب هذا الكتاب من النسخة المحقّقة في مركز إحياء التراث الإسلامي، لا من الطبعة الرائجة.
2 . التقدير : جاعل اُولئك ـ الذين جزموا بتعظيم قدرهم ـ معهم ـ أي مع هؤلاء الشهداء من العلماء ـ في الرفيق الأعلي .
والسير الملحوظة ، وتواريخ العلماء الأعلام والفضلاء الفخام ; إذ عليهم مدار هذا العالم ، من مبدأ نشوء آدم إلي يوم الحشر والحساب ، وهم الهداة إلي طريق الصواب ، والأدلّة علي ما ينجي من العقاب ، فكان الواجب علي الخلق ـ مع ما يترتّب علي حفظ تواريخهم ، وضبط مواليدهم ووفاتهم ، ونشر سيرهم وما كانوا عليه من المنهج القويم والخير العميم ، من المهمّات الجليلة والفوائد النبيلة ، وانبعاث النفوس علي اقتفاء آثارهم والتأسّي بصالح أفعالهم والاهتداء بمشكاة أنوارهم والابتهاج بلذيذ أخبارهم ـ فكان الواجب علي الناس عموماً ، وعلي التلامذة خصوصاً ، إحياء ذكر مشايخهم ، بنقل أحوالهم من البداية إلي النهاية ; ليكون ذلك تذكرةً علي ممرّ الأعصار ، ووسيلةً إلي وقوف من يأتي علي ما يتعلّق بهم من محاسن الأخبار ، وذريعةً إلي إجرائهم علي خاطر داع لهم ومترحّم عليهم بجميل الآثار .
وكان أحقّ مَن نُظِمَ في عِقْد هذا الشأن ، وأولي مَن نُوّه بذكره من فضلاء كلّ زمان ، شيخنا ومولانا ومرجعنا ومقتدانا ، ومنقذنا من الجهالة ، وهادينا ومرشدنا إلي الخيرات ومربّينا ، بديع زمانه ونادرة أوانه ، وفريد عصره وغرّة دهره ، الشيخ الإمام الفاضل ، والحبر العالم العامل ، والنحرير المحقّق الكامل ، خلاصة الفضلاء المحقّقين ، وزبدة العلماالمدقّقين ، الشيخ زين الملّة والدين ابن الشيخ الإمام نور الدين عليّ بن الشيخ الفاضل أحمد بن جمال الدين بن تقيّ الدين صالح(1) ـ تلميذ العلاّمة ـ بن مشرّف العاملي ، (أفاض الله علي روحه المراحم الربّانيّة) ، وأسكنه في فسيح جنانه العليّة ، وجعلنا الله من المقتدين بآثاره ، والمهتدين بأنواره ، بمحمّد وآله (عليه وعليهم أفضل الصلاة وأتمّ السلام) .
ولمّا كان هذا الضعيف الملهوف عليه ، المحزون علي طيب عيش من لديه ، مملوكه وخادمه « محمّد بن عليّ بن حسن العودي الجزّيني » ممّن حاز علي حظّ وافر من خدمته ، وتشرّف بمدّة مديدة من ملازمته ، كان ورودي إلي خدمته في عاشر شهر ربيع الأوّل سنة 945 ]كذا، والصواب: 940[ إلي يوم انفصالي عنه بالسفر إلي خراسان في عاشر ذي القعدة سنة 962 .
1 . وقع مكرّراً في خطّ جدّي (طاب ثراه) « صالح بن مشرّف » ورأيت بخطّ جدّي الشيخ حسن (رحمه الله): أنّ « تقيّ الدين » ذكره السيّد عليّ بن عبد الحميد في كتاب الرجال، وبخطّه(رحمه الله): « هذا جدّنا(رحمه الله)»، ونقل منه جماعة من فضلاء ذلك الزمان من الكتاب المذكور. « منه »
فوا شوقاه إلي تلك الأوقات ، ووا أسفاه علي ما فات ، وجب أن نُوجّه الهمّة إلي جمع تاريخ يشتمل علي ما تمّ من أمره ، من حين ولادته إلي انقضاء عمره ، تأديةً لبعض شكره ، وامتثالا لما سبق إليّ من أمره ، فإنّه(قدس سره) كان كثيراً ما يشير إليَّ بذلك علي الخصوص ، ويرغّب فيه من حيث العموم ، وقد نبّه عليه في منية المريد في أدب المفيد والمستفيد .
فجمعت هذه النبذة اليسيرة وسمّيتها ببغية المريد من الكشف عن أحوال الشيخ زين الدين الشهيد(1) ، ورتّبتها علي مقدّمة وفصول وخاتمة :
أمّا المقدّمة ففي وصفه بالكمال علي الإطلاق ، وما اشتمل عليه من مكارم الأخلاق ، ووصف خلقه وشكله وهيئته ونبله .
وأمّا الفصول :
فالأوّل : في مولده وما أعقبه من ختم كتاب الله ، وترتيب شروعه في تحصيل العلوم ، والمشائخ الذين استفاد منهم وأخذ عنهم وأجازوه ، ومهاجراته للتحصيل ، وما يتبع ذلك علي التفصيل .
والثاني : في ظهور اجتهاده ، وتعداد مصنّفاته ، وما أفاده من التحقيقات في المسائل الفائقة والمباحث الرائقة .
والثالث : في تعداد أصحابه وفضلاء تلامذته الذين قرأوا عليه وتردّدوا إليه ، وأخذوا عنه واستفادوا منه ، من العرب وغيرهم .
والرابع : في ذكر أمره في الكتابة وما له فيها من الآيات ومحاسن الكرامات .
والخامس : في تعداد زوجاته وعدد أولاده ، ومَن بقي ومَن مات منهم ، ومَن رثي ومن رثاه .
والسادس : في محاسن الرسائل البليغة ، والإنشاات الفصيحة ، التي برزت منه إلي الغير ، ومن الغير إليه .
والسابع : في ذكر القصائد التي مدح بها في الزمان ، ومَن مدحه من أهل هذا الشأن .
1 . للمزيد راجع الذريعة، ج 3، ص 136 ـ 137 ، الرقم 462 .
والثامن : في ذكر ما عرض له من الأخاويف وما نزل به من الأراجيف ، وما يتبع ذلك من التستّر وإخفاء نفسه في النازلات ، ومن الأعداء وأهل السعايات ، وما وقع في خلال ذلك بيننا وبينه من المراسلات .
والتاسع : في مقتله وخاتمة أجله ، بنيل درجة الشهادة وتحصيل غاية السعادة ، وسبب القبض عليه ومَن سعي في تعجيل الحتف إليه ، وأين وقع وكيف اتّفق ، وما يتبع ذلك من الكتابات المشتملة علي الشفاعات ، من أعيان علماء أهل الشام وفضلاء الإسلام .
والعاشر : في اضطراب الأخبار في تحقيق الأحوال ، بعد أخذه من الحجاز إلي الروم ، وما انتهي إليه الحال حتّي صار من المعلوم .
وأمّا الخاتمة ففي المراثي والندب وما وقع بعد فقده من الكرب ، وبيان من رثاه وأسال الدمع علي مصرعه وبلواه .
ولنرجع إلي تفصيل ما أجملناه وترتيب ما أسلفناه ، وفنقول :
حاز من خصال الكمال محاسنها ومآثرها ، وتردّي من أصنافها بأنواع مفاخرها ، كانت له نفس عَليّة تزهي بها الجوانح والطلوع ، وسجيّة سنيّة يفوح منها الفضل ويضوع ، كان شيخ الاُمّة وفتاها ومبدأ الفضائل ومنتهاها ، ملك من العلوم زماماً ، وجعل العكوف عليها إلزاماً ، فأحيا رسمها وأعلي اسمها ، لم يصرف لحظة من عمره إلاّ في اكتساب فضيلة ، وتوزّع أوقاته علي ما يعود نفعه في اليوم والليلة ، أمّا النهار ففي تدريس ومطالعة وتصنيف ومراجعة ، وأمّا الليل فله فيه استعداد كامل لتحصيل ما يبتغيه من الفضائل .
هذا مع غاية اجتهاده في التوجّه إلي مولاه ، وقيامه بأوراد العبادة حتّي تكلّ قدماه ، وهو مع ذلك قائم بالنظر في أحوال معيشته علي أحسن نظام ، وقضاء حوائج المحتاجين بأتمّ قيام ، يلقي الأضياف بوجه مسفر عن كرم كانسجام الأمطار، وبشاشة تكشف عن شمم كالنسيم المعطار ، يكاد يبرح بالروح ، وترتاح إليه النفوس كالغصن المَرُوح ، إن رآه الناظر
علي اُسلوب ظنّ أ نّه ما تعاطي سواه ، ولم يعلم أ نّه بلغ من كلّ فنّ منتهاه ، ووصل منه إلي غاية أقصاه ، فجاء نظامه أرقّ من النسيم للعليل ، وآنَق من الروض البليل .
أمّا الأدب ; فإليه كان منتهاه ، ورقي فيه حتّي بلغ سماء سُهاه .
وأمّا الفقه ; فقد كان قطبَ مداره وفَلَكَ شموسه وأقماره ، وكان هَوِيُّ نجم سعوده في داره .
وأمّا الحديث ; فقد مدّ فيه باعاً طويلا ، وذلّل صعاب معانيه تذليلا ، وشعشع القول فيه وروّقه ، ومدّ في ميدان الإعجاز مطلقه ، حتّي صار نصب عينه عياناً ، وجعل للسالكين في طرقه تبياناً ; أدأب نفسه في تصحيحه وإبرازه للناس حتّي فشا ، وجعل ورده في ذلك غالباً ما بين المغرب والعشاء ، وما ذاك إلاّ لأ نّه ضبط أوقاته بتمامها ، وكانت هذه الفترة بغير ورد فزيّن الأوراد بختامها .
وأمّا المعقول ، فقد أتي فيه من الإبداع ما أراد ، وسبق فيه الأنداد والأفراد ، إن تكلّم في علم الأوائل بهج الأذهان والألباب ، وولج منها كلّ باب .
وأمّا علوم القرآن العزيز ، وتفاسيره من البسيط والوجيز ; فقد حصل علي فوائدها وحازها ، وعرف حقائقها ومجازها ، وعلم إطالتها وإيجازها .
وأمّا الهيئة والهندسة والحساب والميقات ; فقد كانت له فيها يد لا تقصر عن الآيات .
وأمّا السلوك والتصوّف ; فقد كان له فيه تصرّف وأيّ تصرّف .
وبالجملة فهو عالم الأوان ومصنّفه ، ومقرّط البيان ومشنّفه ، بتاليف كأ نّها الخرائد ، وتصانيف أبهي من القلائد ، وضعها في فنون مختلفة وأنواع ، وأقطعها ما شاء من الإتقان والإبداع ، وسلك فيها مسلك المدقّقين ، وهجر طريق المتشدّقين ، إن نطق رأيت البيان منسرباً من لسانه ، وإن أحسن رأيت الإحسان منتسباً إلي إحسانه ، جدّد شعائر السُنن الحنيفيّة بعد إخلاقها ، وأصلح للاُمّة ، ما فسد من أخلاقها ، وبه اقتدي من رام تحصيل الفضائل ، واهتدي بهداه من تحلّي بالوصف الكامل ، عمر مساجد الله وأشاد بنيانها ، ورتّب وظائف الطاعات فيها وعظّم شأنها ، كم أمر بالمعروف ونهي عن المنكر ، وكم أرشد من صلّي وصام وحجّ واعتمر .
كان لأبواب الخيرات مفتاحاً . وفي ظُلمه عمي الاُمّة مصباحاً ، منه تعلّم الكرم كلّ كريم ، وبه استشفي من الجهالة كلّ سقيم ، واقتفي أثره في الاستقامة كلّ مستقيم ، لم تأخذه في الله
لومة لائم ، ولم يُثْنَ عزمه عن المجاهدة في تحصيل العلوم الصوارم ، أخلصتْ لله أعمالُه فأثّرتْ في القلوب أقوالُه .
أعزّ ما صرف همّته فيه ، خدمة العلم وأهله ، فحاز الحظّ الوافر لمّا توجّه إليه بكلّه .
ولقد كان مع علوّ رتبته وسموّ منزلته علي غاية من التواضع ولين الجانب ، ويبذل جهده مع كلّ وارد في تحصيل ما يبتغيه من المطالب ، إذا اجتمع بالأصحاب عدّ نفسه كواحد منهم ، ولم تَمِلْ نفسه إلي التميّز بشيء عنهم ، حتّي إنّه كان يتعرّض إلي ما يقتضيه الحال من الأشغال ، من غير نظر إلي حال من الأحوال ، ولا ارتقاب لمن يباشر عنه ما يحتاج إليه من الأعمال .
ولقد شاهدت منه سنة ورودي إلي خدمته أ نّه كان ينقل الحطب علي حمار في الليل لعياله ، ويصلّي الصبح في المسجد ، ويشتغل بالتدريس بقيّة نهاره ، فلمّا أشْعَرْتُ منه بذلك كنت أذهب معه بغير اختياره ، وكنت أستفيد من فضائله ، وأري من حسن شمائله ما يحملني علي حبّ ملازمته وعدم مفارقته .
وكان يصلّي العشاء جماعةً ، ويذهب لحفظ الكرم ، ويصلّي الصبح في المسجد ، ويجلس للتدريس والبحث كالبحر الزاخر ، ويأتي بمباحث غَفَلَ عنها الأوائل والأواخر .
ولعمري لقد اشتمل علي فضيلة جميلة ، ومنقبة جليلة ، تفرّد بها عن أبناء جنسه ، وحباه الله بها تزكية لنفسه ، وهي أ نّه من المعلوم البيّن أنّ العلماء (رحمهم الله) لم يقدروا علي أن يروّجوا اُمور العلم وينظّموا أحواله ، ويُفرِغوه في قالب التصنيف والترصيف ، حتّي يتّفق لهم من يقوم بجميع المهمّات ، ويكفيهم كلّ ما يحتاجونه من التعلّقات ، ويقطع عنهم جميع العلائق ، ويزيل عنهم جميع الموانع والعوائق ; إمّا من ذي سلطان يسخّره الله لهم ، أو ذي مروءة وأهل خير يُلقي الله في قلبه قضاء مهمّاتهم ; لئلاّ يحصل الإخلال باللطف العظيم ، ويتعطّل السلوك إلي المنهج القويم ، ومع ذلك كانوا في راحة من الخوف بالأمان ، وفي دعة من حوادث الزمان ، ولكلّ منهم وكلاء قوّامون بمصالح معيشتهم ونظام دنياهم ، بحيث لا يعرفون إلاّ العلم وممارسته ، ولم يبرز عنهم من المصنّفات في الزمان الطويل إلاّ القليل ، ومن التحقيقات إلاّ اليسير ، وإن كان بعضهم خارجاً عمّا ذكرنا فلا غرو مع ما كان فيه من تمام التوفيق الموصل إلي غاية مدارك التحقيق .
وكان شيخنا المذكور (روّح الله روحه مع ما عرفت) يتعاطي جميع مهمّاته بقلبه وبدنه ،
حتّي لو لم يكن إلاّ مهمّات الواردين عليه ، ومصالح الضيوف المتردّدين إليه ، مضافاً إلي القيام بأحوال الأهل والعيال ، ونظام المعيشة وإتقان أسبابها من غير وكيل ولا مساعد يقوم بها ، حتّي إنّه ما كان يعجبه تدبير أحد في اُموره ، ولا يقع علي خاطره ترتيب مرتّب ; لقصوره عمّا في ضميره ، ومع ذلك كلّه فقد كان غالب الزمان في الخوف الموجب لإتلاف النفس ، والتستّر والاختفاء الذي لا يسع الإنسان معه أن يفكّر في مسألة من الضروريّات البَديْهَة ، ولا يحسن أن يعلّق شيئاً يقف عليه مَن بعده مِن ذوي الفِطَن النبيهة ، وسيأتي إن شاء الله تعالي في عدّ تصانيفه ما ظهر عنه في زمن الخوف ، من غزارة العلوم المشبّهة بنفائس الجواهر المنظوم .
وقد برز عنه مع ذلك ، من التصنيفات والأبحاث والتحقيقات والكتابات والتعليقات ، ما هو ناشئٌ عن عين فكر صاف ، وغارفٌ من بحار علم واف ، بحيث إذا فكّرَ مَن تفكّر في الجمع بين هذا وبين ما ذكرنا تحيّر ، وهذه فضيلةٌ يشهد له بها كلّ مَن كان له به أدني مخالطة ، ولا يمكن أحداً فيها مغالطة .
ومن الشاهد الواضح البيّن أنّ الواحد منّا ـ مع قلّة موانعه وتعلّقاته وتوفّر دواعيه وأوقاته ـ بذل الجهد في استقصاء كتابة مصنّفاته ، وما برز من تحقيقاته ، فما رأينا أحداً من أصحابه استقصاها ، ولا بلغ منتهاها ، وكفاه بذلك نبلا وفخراً .
وأمّا شكله : فقد كان ربعة من الرجال في القامة ، معتدلَ الهامة ، وفي آخر أمره كان إلي السمن أميَل ، بوجه صبيح مدوّر ، وشعر سَبْط إلي الشُقْرة ما هو ، مع سواد العينين والحاجبين ، وكان له خال علي أحد خدّيه ، وآخر علي أحد جبينيه ، وبياض اللون ولطافة الجسم ، عَبْل الذراعين والساقين ، كأنّ أصابع يديه أقلام فضّة ، إذا نظر الناظر في وجهه وسمع عذوبة لفظه لم تسمح نفسه بمفارقته ، وتسلّي عن كلّ شيء بمخاطبته ، تمتلئ العيون من مهابته ، وتبتهج القلوب لجلالته ، وايْمُ اللهِ إنّه لفوق ما وصفت ، وقد اشتمل من حميد الخصال علي أكثر ممّا ذكرت .
في مولده وما أعقبه من ختم كتاب الله ، وترتيب شروعه في تحصيل العلوم ،
والمشائخ الذين استفاد منهم وأخذ عنهم وأجازوه ، ومهاجراته
وقد وجدت بخطّه الشريف قطعةً من تاريخ يتضمّن مولده ، وجملةً من أحواله أوزِّع علي كلّ
فصل من الفصول ما يليق به منها ، وأذكر ما أثبتُّه من حفظي عنه ، أو عن غيره ممّا لم يذكره هو ، بحسب ما يليق بالحال ، وبالله التوفيق .
قال (قدّس الله نفسه وطهّر رمسه):
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة علي أشرف المرسلين وآله الطاهرين ، وأصحابه المنتجبين .
هذه جملة من أحوالي وتصرّف الزمان بي في عمري ، وتاريخ بعض المهمّات التي اتّفقت لي .
كان مولدي في يوم الثلاثاء ، ثالث عشر شهر شوّال ، سنة إحدي عشرة وتسعمائة من الهجرة النبويّة ، ولا أحفظ مبدأ اشتغالي بالتعلّم .
قلت : ذكر لي أ نّه لشدّة صغره ، وكان أبوه عطوفاً عليه جدّاً ، رؤوفاً به ، متفرّساً فيه الخير والنجابة ، حتّي إنّه ما ضربه قطّ ، كان يقول للمعلّم : هذا الولد لا تضربه أصلا بل اتركه برأيه ; فإنّي أعلم أ نّه لا يحتاج إلي الضرب .
وكان الأمر كما ذكر ; فإنّه كان في غاية الرشد ، لا يلتفت إلاّ إلي ما يعود نفعه ، ولا يشتغل باللعب ، ولا بما يُلهي ممّا هو مركوز في جبلّة الأطفال .
قال (قدس سره) :
لكن كان خَتمي لكتاب الله العزيز سنة عشرين وتسعمائة من الهجرة النبويّة وسنّي إذ ذاك تسع سنين ، واشتغلتُ بعده بقراءة الفنون العربيّة والفقه ، علي الوالد (قدّس الله سرّه)، إلي أن تُوفّي في العشر الأوسط من شهر رجب يوم الخميس سنة خمس وعشرين وتسعمائة .
وكان من جملة ما قرأتهُ عليه من كتب الفقه النافع مختصر الشرائع ، و اللمعة الدمشقيّة .
قلت : حكي لي أ نّه من جملة لطفه به أ نّه كان يقرأ تصريف الزنجاني علي بعض الأعاجم ، وكان يقول له : كلّما صرفت صيغةً فلك كذا من الدراهم ، وكان يفي له بما يجعل له .
قال (نضّر الله وجهه):
ثمّ ارتحلت في تلك السنة مهاجراً في طلب العلم إلي مَيْس ، وكان ابتداء الانتقال في شهر شوّال من السنة المذكورة ، واشتغلت علي شيخنا الجليل الشيخ عليّ بن عبد العالي
(قدّس الله سرّه)(1) ، من تلك السنة إلي أواخر سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة ، وكان من جملة ما قرأته عليه شرائع الإسلام و الإرشاد وأكثر القواعد .
ثمّ ارتحلت في شهر ذي الحجّة إلي كَرْكِ(2) نوح (عليه السلام) ، وقرأت بها علي المرحوم المقدّس السيّد حسن بن السيّد جعفر(3) جملة من الفنون ، وكان ممّا قرأته عليه قواعد ميثم البحراني في الكلام ، و التهذيب في اُصول الفقه ، و العمدة الجليّة في الاُصول الفقهيّة من مصنّفات السيّد المذكور ، و الكافية في النحو ، وسمعت جملةً من الفقه وغيره من الفنون .
ثمّ انتقلت إلي جُبَع وطني الأوّل زمن الوالد ، في شهر جُمادي الآخرة سنة أربع وثلاثين وتسعمائة، وأقمت بها مشتغلا بمطالعة العلم والمذاكرة إلي سنة 937 .
ثمّ ارتحلت إلي دمشق ، واشتغلت بها علي الشيخ الفاضل المحقّق الفيلسوف شمس الدين محمّد بن مكّي(4) ، فقرأت عليه من كتب الطبّ شرح الموجز النفيسي ، و غاية
1 . هو الشيخ عليّ بن عبد العالي الميسي من المشايخ الأجلاّء ، ومؤلّف الرسالة الميسيّة ، وشارح رسالة صيغ العقود والإيقاعات للمحقّق الكركي . كان زوج خالة الشهيد الثاني وزوّجه ابنته . توفّي سنة 938 هـ . راجع : أمل الآمل، ج 1، ص 110، الرقم 99 ; أعيان الشيعة، ج 8 ، ص 262 ـ 263 ; ريحانة الأدب، ج 6، ص 80 ; الذريعة، ج 13، ص 363 ، الرقم 1351 .
2 . قرية كبيرة قرب بعلبك ، بها قبر طويل يزعم أهل تلك النواحي أ نّه قبر نوح (عليه السلام) . معجم البلدان، ج 4، ص 514 ، «كرك» .
3 . هو السيّد بدر الدين حسن بن السيّد جعفر بن فخر الدين الأعرجي الحسيني الموسوي العاملي الكركي ، وابن خالة الشيخ عليّ بن عبد العالي الكركي ، ووالد الأمير السيّد حسن المجتهد . يروي عن عليّ بن عبد العالي الميسي . له كتاب العمدة الجليّة في الاُصول الفقهيّة ، المحجّة البيضاء والحجّة الغرّاء ، مقنع الطلاّب و ... بالغ الشهيد الثاني في الثناء عليه في إجازته للشيخ حسين بن عبد الصمد والد الشيخ البهائي . توفّي في سنة 933 . أمل الآمل، ج 1، ص 56 ، الرقم 44 ; أعيان الشيعة، ج 5، ص 34 ; روضات الجنّات، ج 2، ص 294 ـ 295 ، الرقم 203 .
4 . هو الشيخ شمس الدين أبو عبد الله محمّد بن مكّي الملقّب بالشهيد الأوّل . ولد في جزّين ورحل إلي العراق وأخذ العلم عن عدّة من المشايخ العظام أعظمهم وأجلّهم فخر المحقّقين محمّد بن الحسن بن يوسف الحلّي .
كان أوّل من هذّب الفقه الشيعي من أقوال المخالفين . له عدّة مصنّفات قيّمة كالبيان ، وغاية المراد ، والدروس الشرعيّة ، واللمعة الدمشقيّة و ... استشهد في سنة 786 ق بدمشق في دولة بيدر وسلطنة برقوق بفتوي القاضي المالكي بعدما حبس سنة كاملة في قلعة الشام .
راجع : شذرات الذهب، ج 6، ص 294 ، حوادث سنة 786 ; أمل الآمل، ج 1، ص 181 ـ 183 ، الرقم 188 ; رياض العلماء، ج 5، ص 185 ـ 191 ; روضات الجنّات، 7 : 3 ـ 21 ، الرقم 592 .
القصد في معرفة الفصد من مصنّفات الشيخ المبرور المذكور ، و فصول الفرغاني في الهيئة ، وبعض حكمة الإشراق للسهروردي .
وقرأت في تلك المدّة بها علي المرحوم الشيخ أحمد بن جابر الشاطبيّة في علم القراات ، وقرأت عليه القرآن بقراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وعاصم .
ثمّ رجعت إلي جُبَع سنة 938 ، وبها توفّي شيخنا الشيخ شمس الدين المذكور ، وشيخنا المتقدّم الأعلي الشيخ عليّ في شهر واحد ، وهو شهر جُمادي الاُولي ، وكانت وفاة شيخنا السيّد حسن سادس شهر رمضان سنة 933 ]كذا، والصواب 936[ ، وأقمت بالبلدة المذكورة إلي تمام سنة 941 .
ورحلت إلي مصر في أوّل سنة 942 لتحصيل ما أمكن من العلوم ، واجتمعت في تلك السفرة بجماعة كثيرة من الأفاضل ، فأوّل اجتماعي بالشيخ شمس الدين ابن طولون الدمشقي الحنفي ، وقرأت عليه جملةً من الصحيحين ، وأجازني روايتهما مع ما يجوز له روايته في شهر ربيع الأوّل من السنة المذكورة .
قلت : وكانت قراءته عليه في الصالحيّة بـ « المدرسة السليميّة » وكنت أنا إذ ذاك في خدمته أسمع الدرس ، وأجازني الشيخ المذكور الصحيحين المذكورين ، ورآه بعض الإخوان الصالحين ـ وهو الشيخ زين الدين الفقعاني ـ تلك السنة في المنام في قرية يقال لها « البصّة » علي ساحل البحر مع جماعة ، فدخل عليهم رجل ذو هيئة ومعه جرّة فيها ماء ، فألقم باب الجرّة شيخنا الشيخ زين الدين وجعل يكرع من الماء وهو قابضها معه ، فسأل الرائي عنه فقيل له : هذا الشيخ عليّ بن عبد العالي الكركي ، وهذا الشيخ يروي عنه شيخنا بواسطة(1) .
1 . أقول : إنّه يروي عنه بغير واسطة لمّا اجتمع معه في الجملة ، وإجازته له عندي بخطّه في أوّل شرح الجعفريّة ، وكان الشيخ زين الدين (قدس سره) في أوائل السنّ ، وتاريخ الإجازة في ثالث شهر رجب من سنة أربع وثلاثين وتسعمائة . ]اقول: الهامش خطأ بلا ريب[.
ويظهر ممّا يأتي أ نّه لم يكن في هذه السنة مسافراً ، ويمكن أن تكون الإجازة لمشارك له في الاسم ، وفيها الشيخ زين الدين العاملي . « منه »
توفّي مسموماً ثاني عشر ذي الحجّة سنة 940 وهو في الغريّ علي مشرّفه السلام ، وكنت اُريد صحبته إلي مصر فأرسلتْ إليه الوالدة أ نّه يمنعني من السفر فمنعني ، وما كان ذلك إلاّ لسوء حظّي ، وكان القائم بإمداده وتجهيزه بهذه السفرة الحاج المحترم الخيّر الصالح شمس الدين محمّد بن هلال(رحمه الله) ، عمل معه عملا قصد به وجه الله ، وقام بكلّ ما يحتاج إليه ، مضافاً إلي ما أسدي إليه من المعروف ، وأجري عليه من الخيرات في مدّة طلبه العلم قبل سفره .
هذا ، وأصبح هذا الحاج محمّد مقتولا في بيته ، هو وزوجته وولدان له ، أحدهما رضيع في السرير ، في سنة 952 ، وكان مع كونه من أهل الدنيا علي غاية من الصلاح ، وكان في القافلة التي سافر معها رجل من أهل الشام يُخاف من شرّه وعناده وغدره ، وكان الحاج محمّد المذكور يحذّره منه حتّي بالغ وقال : لو كنت أنا اُريد السفر وهذا الرجل في القافلة لتركت السفر ، وسيجيء ما اتّفق له مع هذا الرجل في الطريق (وكفاه الله شرّه) .
ثمّ وَدَّعناه وسافر من دمشق يوم الأحد نصف ربيع الأوّل سنة 942 ، واتّفق له في الطريق ألطاف إلهيّة وكرامات جليّة حكي لنا بعضها :
منها : ما أخبرني به ليلة الأربعاء عاشر شهر ربيع الأوّل سنة ستّين وتسعمائة أ نّه في الرملة ، مضي إلي مسجدها المعروف بـ « الجامع الأبيض » لزيارة الأنبياء الذين في الغار وحده ، فوجد الباب مقفولا وليس في المسجد أحد ، فوضع يده علي القفل وجذبه فانفتح ، فنزل إلي الغار واشتغل بالصلاة والدعاء ، وحصل له إقبال علي الله بحيث ذهل عن انتقال القافلة وسيرها ، ثمّ جلس طويلا ، ودخل المدينة بعد ذلك ومضي إلي مكان القافلة فوجدها قد ارتحلت ولم يبقَ منها أحد ، فبقي متحيّراً في أمره ، مفكّراً في اللحاق مع عجزه عن المشي وأخذوا أسبابه ومحافته ، فأخذ يمشي علي إثرها وحده ، فمشي حتّي أعياه التعب فلم يلحقها ولم يرها من البعد ، فبينما هو في هذا الضيق إذ أقبل عليه رجل لاحِقٌ به وهو راكب
بغلا ، فلمّا وصل إليه قال له : اركب خلفي ، فردفه ومضي كالبرق ، فما كان إلاّ قليل حتّي لحق بالقافلة وأنزله وقال له : اذهب إلي رفقتك ، ودخل هو في القافلة .
قال : فتحرّيته مدّة الطريق أ نّي أراه ثانياً فما رأيته أصلا ، ولا قبل ذلك ، وهذه كرامة ظاهرة وعناية باهرة ، لا ينكرها إلاّ من غَطَي هواه علي عقله ، واعتقد أنّ الله لا يعتني بمن
هو من أهله .
ومنها : أ نّه لمّا وصل إلي غزّة واجتمع بالشيخ محيي الدين عبد القادر ابن أبي الخير الغزّي ، وجرت بينه وبينه احتجاجات ومباحثات ، وأجازه إجازة عامّة ، وصار بينهما موادّة زائدة ، وأدخله إلي خزانة كُتُبه ، فقلب الكتب وتفرّج في الخزانة ، فلمّا أراد الخروج قال له : اختر لنفسك كتاباً من هذه الكتب ، فوضع يده علي كتاب من غير تأمّل ولا انتخاب ، فظهر كتاب ـ لا يحضرني اسمه ـ من كتب الشيعة من مصنّفات المرحوم الشيخ جمال الدين ابن المطهّر .
وهذه كرامة واضحة ومنقبة راجحة .
ومنها : أ نّه لمّا وصل إلي قطية وكان معه شيء من الشريط(1) بضاعةً ، فجاء جماعة الحاكم يطلبون المكوس من القافلة وأخذوهم إلي عند الحاكم ، وكان هو من الجملة ، فمرّ فرأي الرجل الشامي الذي كان الحاج محمّد بن هلال المذكور يحذّره منه جالساً عند باب الوالي ، فلمّا رآه مقبلا قال للحاضرين : هذا هو الذي قلت لكم عنه ، فقال له : ما الذي قلت لهم عنّي ؟ قال : قلت لهم إنّك رائح إلي مصر تطلب العلم ، وأنّ الحاج محمّد بن هلال أرسلك وأمدّك ، فحصل في نفسه بعض ريبة ، فلمّا دخلوا علي الوالي وجعلوا يحاسبون التجّار علي ما معهم حتّي وصلت النوبة إليه ، فلمّا نظر إليه تفرّس فيه الخير ، وكتب بخطّه رقعة فيها : «جمال فلان سماح»، فلمّا خرج من عنده مرّ علي الرجل الشامي المذكور فقال له : لا شكّ أنّ معك لجاماً تُلجم به الناس ; فكأ نّه لما كان في قلبه عليه دغالة(2) وغيّرها الله تعالي وكفاه ذلك قال له ذلك ، والذي كان معه من البضاعة نصف جمل فجعل جمال بعض رفقته له وخَرَّجها .
1 . كذا في النسخ ، ولعلّه : « السَريْط » وهو الفالُوذَج ; حَلْواء تُعمل من الماء والدقيق والعسل .
2 . كذا في النسخ ، وأصلها « الدَغيْلَةُ » ; من « الدَغَل » وهو الحقد الخفيّ والمكر والخديعة . للمزيد اُنظر القاموس المحيط .
قال نفع الله ببركاته :
وكان وصولي إلي مصر يوم الجمعة منتصف شهر ربيع الآخر من السنة المتقدّمة ، واشتغلت بها علي جماعة .
منهم : الشيخ شهاب الدين أحمد الرملي الشافعي(1) ، قرأت عليه منهاج النووي في الفقه ، وأكثر مختصر الاُصول لابن الحاجب ، و شرح العضدي مع مطالعة حواشيه ; منها : السعديّة و الشريفيّة .
وسمعت عليه كتباً كثيرةً في الفنون العربيّة والعقليّة وغيرهما :
فمنها : شرح التلخيص المختصر في المعاني والبيان لملاّ سعد الدين .
ومنها : شرح تصريف العزّي .
ومنها : شرح الشيخ المذكور ل ـ ورقات إمام الحرمين الجويني في اُصول الفقه .
ومنها : أذكار النووي ، وبعض شرح جمع الجوامع المحلّي في اُصول الفقه ، و توضيح ابن هشام في النحو ، وغير ذلك ممّا يطول ذكره .
وأجازني إجازة عامّةً بما يجوز له روايته سنة 943 .
ومنهم : الملاّ حسين الجرجاني ، قرأنا عليه جملة من شرح التجريد للملاّ علي القوشجي مع حاشية ملاّ جلال الدين الدواني ، و شرح أشكال التأسيس في الهندسة لقاضي زادة الرومي ، و شرح الجغميني في الهيئة له .
ومنهم : الملاّ محمّد الأسْتَرآبادي(2) ، قرأنا عليه جملة من المطوّل مع حاشية السيّد الشريف ، و الجامي شرح الكافية .
ومنهم : الملاّ محمّد الكيلاني ، سمعنا عليه جملة من المعاني والمنطق .
ومنهم : الشيخ شهاب الدين بن النجّار الحنبلي ، قرأت عليه جميع شرح الشافية للجاربردي ، وجميع شرح الخزرجيّة في العروض والقوافي للشيخ زكريّا الأنصاري ،
1 . هو أحمد بن حمزة الرملي . فقيه شافعي ، من رملة المنوفيّة بمصر . من كتبه فتح الجواد بشرح منظومة ابن العماد والفتاوي . توفّي بالقاهرة سنة 957 ق . الأعلام للزركلي، ج 1، ص 120 .
2 . هو محمّد بن عبد القاهر بن محمّد الأسْتَرآبادي ، له كتاب المحدود في حدّ الحدود فرغ من تأليفه سنة 941 ق . الأعلام للزركلي، ج 6، ص 214 .
وسمعت عليه كتباً كثيرة في الفنون والحديث ، منها الصحيحان ، وأجازني جميع ما قرأت وسمعت وما يجوز له روايته في السنة المذكورة .
ومنهم : الشيخ أبو الحسن البكري(1) ، سمعت عليه جملة من الكتب في الفقه والتفسير ، وبعض شرحه علي المنهاج .
قلت : كثيراً ما كان (قدّس الله سرّه) يطري علينا أحوال هذا الشيخ ويُثني عليه ، وذكر أ نّه كان له حافظة عجيبة ; كان التفسير والحديث نصب عينيه ، وكان أكثر المشائخ المذكورين اُبّهةً ومهابة عند العوام والدولة ، وكان علي غاية من حسن الطالع والحظّ الوافر من الدنيا ، وإقبال القلوب عليه ، وكان من شدّة ميل الناس إليه إذا حضر مجلس العلم ، أو دخل المسجد ، يزدحم الناس علي تقبيل كفّيه وقدميه ، حتّي منهم من يمشي حبواً حتّي يصل إلي قدميه يقبّلهما .
صحبه شيخنا ـ نفع الله به ـ من مصر إلي الحجّ ، وذكر أ نّه خرج في مهيع عظيم من مصر ، راكباً في محفّة ، مستصحباً ثقلا كثيراً بعزم المجاورة بأهله وعياله ، وكان شأنه أ نّه إذا حجّ يجاور سنة ويقيم بمصر سنة ويحجّ ، وكان معه من الكتب عدّة أحمال ـ ذكر شيخنا عددها ولكن ليس في حفظي الآن ـ حتّي إنّه ظهر له منه التعجّب من كثرتها ، فروي له أنّ الصاحب بن عبّاد (رحمه الله) كان إذا سافر يصحب معه سبعين حملا من الكتب بحيث صار ما صحبه قليلا في جنب ذلك .
وذكر أ نّه حكي له : في أوّل منزل برز إليه الحاج خارج مصر أ نّه أخرج ـ حتّي صار في ذاك المنزل ـ ألف دينار من المال ، وكان محبّاً لشيخنا ، مقبلا عليه ، متلطّفاً به ، ولمّا رآه أوّل مرّة راكباً في المَحارَة ـ وهو كان في المَحَفّة ـ سلّم عليه وتواضع معه وقال له : يا شيخ أنا أوّل حجّة حججتها ركبت في موهيّة ; عبارة عن وعاء من الخوص ، وأنت ـ الحمد لله ـ من أوّل حجّة ركبت في المَحارَة ، وكان شيخنا يتحرّي أن لا يراه وقت الإحرام ، فاتّفق أ نّه
1 . هو أبو الحسن محمد بن محمّد بن عبد الرحمن البكري الصدّيقي ، من علماء الشافعيّة . مولده ووفاته بالقاهرة . من كتبه : تسهيل السبيل ( تفسير البكري ) ، شرح منهاج النووي ، إرشاد الزائرين لحبيب ربّ العالمين . توفّي بالقاهرة سنة 952 ق . راجع : شذرات الذهب ج 8 ، ص 292 ـ 293 ، سنة 952 ; الأعلام للزركلي ج 7 ، ص 57.
صادفه حال السير مُحرماً ، فقال له بصوت عال : ما أحسن هذا ، ما أحسن هذا ، تقبّل الله منكم ، وكانت له معه محاورات ولطائف في تضاعيف المباحثات .
سأله يوماً في الطريق : ما تقولون في أمر هؤلاء العوام والرعاع الذين لا يعرفون شيئاً من الدلالات المنجية من الهلكات ؟ ما حكمهم عند الله سبحانه ؟ وهل يرضي منهم مع هذا التقصير ؟ بل تنقل الكلام إلي العلماء الأعلام والفضلاء الكرام الذين جمد كلّ فريق منهم علي مذهب من المذاهب الأربعة ، ولم يدرِ ما قيل فيما عدا المذهب الذي اختاره ، مع قدرته علي الاطّلاع والتفحّص وإدراك المطالب ، وقنع بالتقليد للسلف ، وجزم بأ نّهم كفوه مؤونة ذلك ، ومن المعلوم أنّ الحقّ في جهة واحدة ، فإن قالت إحدي الفرق : الحقّ في جانبنا اعتماداً علي فلان وفلان ، فكذلك الاُخري تقول اعتماداً علي محقّقيهم وأعيان مشائخهم ; لأنّ ما من فرقة إلاّ ولها فُضلاء ترجع إليهم وتعوّل عليهم ، فالشافعيّة مثلا يقولون : نحن الإمام الشافعي ، وفلان وفلان كفونا ذلك ، وكذلك الحنفيّة يستندون إلي الإمام أبي حنيفة وغيره من محقّقي المذهب ، وكذلك المالكيّة والحنابلة يستندون إلي فضلائهم ومحقّقيهم ، وكذلك نحن الشيعة يقولون : السيّد المرتضي والشيخ الطوسي والخواجة نصير الدين والشيخ جمال الدين وغيرهم بذلوا الجهد ، وكفونا مؤونة التفحّص ، ونحن علي بصيرة وثقة من أمرنا ، فكيف يكتفي مثل هؤلاء الفضلاء بالاقتصار علي أحد هذه المذاهب ولم يطّلع علي حقيقة المذاهب الاُخر ، بل ولا وقف علي مصنّفات أهله ولا عرف أسماءهم ؟ ! فكون الحقّ مع الجميع لا يمكن ، ومع البعض ترجيح من غير مرجّح !
فأجاب الشيخ أبو الحسن : أمّا ما كان من العوام فنرجو من عفو الله أ نّه لا يؤاخذهم بتقصيرهم ، وأمّا العلماء فيكفيهم كون كلّ منهم محقّاً في الظاهر .
فقال شيخنا : كيف يكفيهم مع ما ذكر من تقصيرهم في النظر وتحقيق الحال ؟ !
فقال له : يا شيخ جوابك سهل ، مثال ذلك من ولد مختوناً خلقةً فإنّه يكفيه عن الختان الواجب شرعاً .
فقال له شيخنا : هذا المختون خلقةً لا يسقط عنه الوجوب حتّي يعلم أنّ هذا هو الختان الشرعي ; بأن يسأل ويتفحّص من أهل الخبرة والممارسين لذلك ، وأنّ هذا القدر الموجود
خلقةً هل هو كاف في الواجب شرعاً أم لا ؟ أمّا أ نّه من نفسه يقتصر علي ما وجده فهذا لا يكفيه شرعاً في السقوط .
فقال له : يا شيخ ليست هذه أوّل قارورة كُسِرت في الإسلام .
توفّي سنة 953 بمصر ودُفن بالقرافة ، وكان يوم موته يوماً عظيماً بمصر لكثرة الجمع ، ودفن بجانب قبّة الإمام الشافعي وبنوا عليه قبّةً عظيمةً .
قال (روّح الله روحه الزكيّة) :
ومنهم : الشيخ زين الدين الحرّي المالكي ، قرأت عليه ألفيّة ابن مالك .
ومنهم : الشيخ المحقّق ناصر الدين اللقاني المالكي ، محقّق الوقت وفاضل تلك البلدة ، لم أرَ بالديار المصريّة أفضل منه في العلوم العقليّة والعربيّة ، سمعتُ عليه البيضاوي في التفسير وغيره من الفنون .
ومنهم : الشيخ ناصر الدين الطبلاوي الشافعيّ(1) ، قرأت عليه القرآن بقراءة أبي عمرو ، ورسالة في القراات من تأليفاته .
ومنهم : الشيخ شمس الدين محمّد أبي النجا النحّاس ، قرأت عليه الشاطبيّة في القراات والقرآن العزيز للأئمّة السبعة ، وشرعت ثانياً أقرأ عليه للعشرة ولم اُكمل الختم بها .
قلت : كثيراً ما ينعت هذا الشيخ بالصلاح وحسن الأخلاق والتواضع وكان فضلاء مصر والأكابر يتردّدون إليه للقراءة في فنون القرآن العزيز ، لبروزه فيها ، وكان هذا الفنّ نصب عينيه ، حتّي إنّ الناس كانوا يقرأون عليه وهو مشتغل بالصنعة ، لا يرمي المطرقة من يده إلاّ إذا جاء أحد من الفضلاء الكبار ، فيفرش له شيئاً ويجلس هو علي الحصير .
قال أعاد الله علينا من بركاته :
ومنهم : الشيخ الفاضل الكامل عبد الحميد السمهودي ، قرأت عليه جملة صالحة من الفنون ، وأجازني إجازة عامّة .
قلت : وهذا الشيخ أيضاً كان شيخنا (قدس سره) كثير الثناء عليه بالجمع بين فضيلتَي العلم والكرم ،
1 . هو محمّد بن سالم الطبلاوي من علماء الشافعيّة بمصر . انفرد في كبره بإقراء العلوم الشرعيّة وآلاتها كلّها حفظاً ، ولم يكن في مصر أحفظ لهذه العلوم منه . له كتاب بداية القاري في ختم البخاري . توفّي سنة 966 ق . شذرات الذهب، ج 8 ، ص 348 ، سنة 966 ; الأعلام للزركلي، ج 6، ص 134 .