فهرست |
السيد علي عباس الموسوي
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمدللّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على نبي الرحمة و البركة محمد و على أهل بيته الطيّبين الطاهرين.
و بعد، فإنّ من الواضح أنّ الفقه بمعناه العام ـ باعتباره علماً كسائر العلوم ـ هو مجموعة من المسائل الشرعية و المصادر المتعلّقة بها، و طرق الاجتهاد و استنباط الأحكام على هذ الصعيد.
إلاّ أنّ هنالك طائفة أخرى من هذه المجموعة هي عبارة عن مباني و قواعد أصولية و فقهية متعدّدة يمكن أن تشكّل أُسساً أصلية في عملية الاستنباط.
و الاجتهاد في أيّ فرع فقهي ـ و لو كان بسيطاً ـ كما يبتني على العناصر التي ذكرناها ضمن الإطار الذي حدّده التعريف أعلاه، كذلك يمكن أن يبتني على المباني و القواعد المعتبرة التي بإمكانها أن ترتسم بعنوان ملاك للعمل الاجتهادي قبل تناول فروع المسائل المطروحة.
و من جهة أخرى أنَ ماهية الاجتهاد لاتتعدّى كونها مساعىَ تجري في العمق الجذري للمسألة، في ضوء منهج و إطار معروفين، لغرض الإجابة عن الأسئلة الفقهية و الشرعية التي يبتلي بها المكلّف.
و لافرق بين كون هذه الأسئلة التي يبتلي بها المكلّف جزءاً من الموضوعات القديمة، و ممّا تعدّ من الماضي أو أنّها مورد ابتلاء مسبقة، أو كونها حديثة و جزءاً من الموضوعات الجديدة، فالفقه المتداول قد ينهض لموضوعات قديمة و سابقة، لكن بسبب التنظير تظهر بثوب جديد، و قد ينهض لموضوعات جديدة تظهر إثر حوادث مستجدة، و أسئلة مستحدثة تتعلّق ـ غالباً ـ بموضوعات حديثة.
و من الواضح أنّ أيّ مذهب فقهي و إن كان يعتقد بانسداد باب الاجتهاد، لايمكنه أن يغمض عينيه عن المسائل المستجدة الحاصلة إثر الوقائع المستحدثة، و إلاّ سوف يشهد على نفسه الأفول، و من ثم الزوال إلى الأبد، كما حَصَلَ لبعض المذاهب الفقيهة التي اندرست، و لم يعدّ لها ذكر ولاأثر ولا أتباع في الوقت الحاضر.
و من هنا يتّضح أنّ المذاهب الفقهية الحالية المعروفة، و التي ترى ـ أيضاً ـ أنّ باب الاجتهاد مسدود، يجهد علماؤها و فقهاؤها ـ و في أيّة مرحلة أو مقطع تاريخي من مسيرة حياتها ـ فى إلاجابة عن الاسئلة الحادثة من الوقائع المستجدة ضمن إطار أصول المذهب، و على أساس الملاكات و المباني الخاصة به، لكن بما يتناسب و الحاجات الجديدة.
و هذا في الواقع ما هو إلاّ فتح نسبي لباب الاجتهاد، و ما اشتهر بين هذه المذاهب و المحافل الفقهية بـ «فقه النوازل» ليس إلاّ من هذا الباب.
و أمّا على صعيد الفقه الإمامي فالأمر واضح وضوح الشمس، و لايجد فقهاؤهم عسراً تجاه أيّة مسألة مستحدثة من واقعة مستجدّة، إذ إنّ باب الاجتهاد مفتوح عندهم، و إلاجابة عن المسائل المستجدّة ضمن إطار الأصول و المباني الفقهية و الاجتهادية الثابتة عندهم جارية حتّى وقتنا الحاضر.
إنّ طرح المسائل و المستجدات لايرتبط بزمان خاصّ و معيّن، لذا فالحاجة إلى الاجتهاد مستمرة و دائمة، لكن ما يميّز عصرنا الحالي سرعة و كثرة وقوع
الحوادث، و كثافة المسائل المستحدثة إثر التطوّر اليومي الذي يشهده الفرد المسلم في حياته الفردية و الاجتماعية و الأسرية، فكانت الحاجة إلى الاجتهاد و العمل الإضافي أكثر على هذا الصعيد.
اذن فالسبب الذي دعا فقهاء الإمامية ـ و منذ سنوات طويلة ـ إلى مزاولة عملية الاجتهاد بحماسة، و التعاطي مع الموضوعات المستجدة بعنوان «المسائل المستحدثة» من دون انقطاع، إنّما هو ناشئ من حاجات العصر الراهن، و متطلّباته الكثيرة.
و في هذا الوسط يبرز سؤال أساسي وكلّي: هل يمكن تحديد دائرة خاصّة يمكن بواسطتها تقصّي المسائل الجديدة و إلاجابة عن المستجدات الحادثة؟
هل أنّ الاجتهاد في هذه الطائفة من المسائل يبتني على قواعد و مباني خاصّة بحيث تعين الفقيه و المجتهد على عمله الاستنباطي، و بواسطتها يمكن تقديم الإجابة الصحيحة و الموافقة لأصول الشرع المقدس بسهولة؟
و بعبارة أخرى: في مجال العمل الاجتهادى و الإجابة عن المسائل المستجدّة، لو قمنا بمقارنتها مع المسائل السابقة، هل يمكن الاستناد إلى المباني و القواعد الخاصّة في هذا الإطار، و اعتبارها أدوات و مصادر الاستنباط في المسائل الجديدة ضرورية و موسّعة لدائرة الاجتهاد أم لا؟
و مثل هذه المباني و القواعد لايجب حصرها في مجال الفقه و المسائل الفقهية فحسب، بل بوسعها العمل في كلّ مقام مشترك و على كلّ الصعد، كما يمكن استعمالها استعمالاً خاصّاً و بعناية في عملية استنباط المسائل الجديدة.
و الجدير ذكره أنّ استعمال هذه الفئة من القواعد و الأصول و المباني، كما أنّه لايقتصر على المسائل المستجدة فحسب، و إنّما يتعدّى إلى غيرها من المسائل، كذلك الاهتمام بها على نحو الإجابة عن هذه المسائل له علاقة خاصّة بها أيضاً.
و هذا الكتاب النفيس الذي بين يديك ـ عزيزنا القارئ ـ قد تمّ تأليفه على هذا الأساس، حيث سعى مؤلّفه الكريم إلى جذب انتباه القرّاء إلى بعض النكات المحورية على هذا الصعيد، و إرسال بحثه إلى أبعاد مختلفة و مهمّة في حياة المكلّف، مع إرفاقها بأمثلة عملية جديرة بمطالعتها و إلالمام بها.
و قد أكّد المؤلّف في كتابه على ضرورة معرفة موضوع الحكم، و أهمّيته في عملية الاستنباط; للعلاقة القائمة بين الموضوع و الحكم، و إمكان تعميم الحكم على موضوعات أخرى. كما أكّد على إمكان الاستفادة من مجموعة القواعد و المحاور المشتركة في مجال فقه المسائل المستحدثة، و ضرورة الإحاطة بها.
كما ضمّ الكتاب بحثاً نفيساً عن ارتكازات المتشرّعة أو العقلاء، و النظرة الخاصّة التي يحملها الفقه المعاصر إلى العقود و المعاملات الجديدة، إضافة إلى الحديث عن قواعد الحكم الثانوي، و دورها فى المسائل الجديدة، و ما يمكن أن يترتّب عليها من أهمّية في مجال تناول المسائل الحديثة و المستجدّة.
و أثبت فى هذا البحث أنّه يمكن جعل الأحكام الولائية و المتعلّقة بالحكومة مورد جريانها أيضاً، بعد أن أورد جملة نماذج في هذا الاتجاه.
لقد بذل المؤلّف حجة الاسلام و المسلمين السيدعلي عباس الموسوي جهده في تصوير الأبعاد المختلفة للمباني و القواعد، و بيانها على مستوىً كبير من التوضيح، من خلال إيراد الكثير من التحليلات، و تقييم المصاديق، و تطبيق القواعد و المباني في أمثلة عملية عديدة، بل حاول انتزاع أمثلة من مجالاتها الواقعية أو الذهنية من اجل بيان المطالب.
و هذا الكتاب الذي يتمتّع بميزة الجودة و الحداثة في الطرح، و العمق في الموضوعات الفقهية، وجده معهدنا الأغرّ: معهد الفقه و الحقوق، أهلاً لأن يحظى بفرصة الطبع و النشر، و ينال الحظوة كسائر المؤلّفات النفيسة، و يرقى مكانه في
المكتبة الفقهية الاسلامية المعتبرة، فقام ـ كما هو ديدنه ـ بطبعه و الإشراف عليه و نشره بحلّة تتناسب و أهمّيته العلمية.
و قد نهض بمهمة الإشراف العلمي، و التقييم المفصّل في المرحلة الأولى كلّ من: حجج الاسلام و المسلمين الشيخ رضا اسلامي و الشيخ حسنعلي علي اكبريان، و شاركهما جمع آخر في مجال التقييم الثانوي، و هم: حجج الاسلام و المسلمين: الشيخ محمد سروش المحلاتي، و الشيخ سعيد ضيائي فر و الشيخ محمدحسين القائينى.
هذا، و قام كلٌّ من: الأساتذة حجج الاسلام و المسلمين الشيخ علي اكبر السيفي المازندراني و الشيخ أحمد العابدي ضمن اجتماع شورى المعهد بمتابعة التقييمات و إلقاء النظرة النهائية على المتن.
و في هذا الصدد يسرّ معهدنا أن يقدّم جزيل شكره و تقديره إلى جميع السادة و الأساتذة الأفاضل الذين ساهموا بجهود مباركة في هذا العمل النفيس، و نخصّ بالذكر المؤلّف المحقّق المحترم الذي تحمّل عَبْأَ تأليفه، و توثيق مطالبه، و الإخوة الأفاضل من كادر المعهد الذين لم يألوا جهداً فى تقديم الأفضل لهذا الكتاب على طول مراحل تحقيقه و تصحيحه و تقويم نصّه و مقابلته، ثم طبعه و نشره بهذه الصورة القشيبة.
نسأل اللّه سبحانه التوفيق و النجاح للجميع من أجل نشر الأفضل و الأصيل من تراثنا الاسلامي، و المؤلّفات العلمية التي تخدم الدين و المذهب: مذهب أهل بيت النبوة و الرسالة(عليهم السلام)، إنّه سميع مجيب.
سيدضياء المرتضوي
مدير معهد الدراسات الفقهية و الحقوقية
آذر 1387 هـ . ش / ذي الحجة 1429 هـ. ق
نتيجة لارتباط الفقه بالحياة الإنسانية، وحيث شكّل الفقه الاستجابة لمختلف متطلّبات الحياة الاجتماعية والفردية، كان لا بدّ وأن يعالج الفقه كلّ الحوادث التي يفرضها التطوّر الطبيعي للإنسان فيما يستفيده ممّا سخّره الله عزّ وجلّ له في هذه الأرض.
وقد تنوّعت الدراسات الفقهية التي تتناول مستجدّات المسائل ومستحدثاتها، وهذه المسائل والنوازل الفقهية و إن كانت لا تخرج عن قواعد الاستنباط العامة التي أسّسها علم الأصول، لكنّها تمتاز بأنّ أسلوب معالجتها ضمن أُطر الاستنباط العامة يخضع لآلية خاصة تفرضها جِدَة هذه المسائل واختلافها وتنوعها.
إنّ الذي يميّز البحث في المسائل المستحدثة هو أنّها تخضع أكثر من سائر المسائل لعنصر «الابتكار الفقهي»، إذ إنّ الفقيه الباحث في هذه المستحدثات ينطلق من أرض خالية تماماً، حيث لم تُعالج هذه المسائل من قبل، وعليه هو أن يُبدع هو في حلِّها ضمن منهج البحث الفقهي وأدواته.
تفرض مستحدثات المسائل نفسها على الفقه كسؤال يتطلّب موقفاً شرعياً، ومن هذه المستحدثات ما يكون مساره العادي والطبيعي أن يكون كذلك، وهي
المسائل التي ترجع إلى التطور العلمي في مختلف المجالات الحياتية; كالأمور الطبية ونحوها، ومنها ما لا يكون ذلك مساره الطبيعي والعادي، أي أنّه يفرض نفسه على الفقه، ويطلب منه أن يُحدّد الموقف منه، كما في الأنظمة الاقتصادية أو المعاملات المستحدثة ونحوها، وذلك لأنّ الوظيفة الأوليّة للفقه هي أن يُبدع هذه المعاملات وهذه الأنظمة الاقتصادية; لأنّها إذا انطلقت من ذاته فإنّها ستتواءم معه ولا تفرض نفسها عليه.
ومن هنا كان علاج المسائل المستحدثة ضمن الإطار الثاني علاجاً مؤقتاً تفرضه الضرورة، والطريق الطبيعي هو أن يُبدع الفقه هذه المعاملات، وتنطلق من قواعده هو لا من قواعد أخرى.
لقد مثّلت تجربة الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر في كتابه (البنك اللاربوي في الإسلام) محاولةً أولى لإصدار الفقه الإمامي لمنظومة معاملية بنكية تنطلق من داخل الفقه وأدواته، فيما جعل الشهيد الصدر ملاحق كتابه ذاك معالجةً لنظام البنك الوضعي ضمن قواعد الفقه ومقرّراته.
ولكن يمكننا القول بأنّ البحث ضمن هذا المنهج التوليدي قد توقّف، فلا نجد دراسات فقهية تسعى إلى استيلاد نظام اقتصادي من رحم الفقه وأدواته، فيما نجد اتجاهاً واضحاً لمعالجة النظم الاقتصادية علاجاً مؤقتاً ومرحلياً.
قلّما تعرّضت الأبحاث الاستدلالية الفقهية المدرسية لموضوعات هذه المسائل، فقد فرض النظام المدرسي معالجة المسائل المختلفة، والتي منها ما أُشبع حتّى النهاية، فيما تواجه هذه المسائل المستحدثة نقصاً هائلاً، وهي بأشدّ الحاجة إلى إعمال الفقهاء لطاقاتهم الهائلة في البحث عن أحكامها وتحديد قواعدها، وهذا الأمر
يدعونا لأن نولي البحث حول فقه المسائل المستحدثة مزيداً من الجهد والاهتمام.
إلاّ أنّ من الدراسات ما انطلق لمعالجة هذه المسائل، وأخصّ بذلك سماحة الأستاذ آية الله السيد محمود الهاشمي، حيث عالج مسائل مختلفة من هذه المستحدثات ضمن منهج فقهي تظهر فيه معالم التجديد والتحديث.
و وجدت أنّ هذه الدراسات المتنوّعة في المستحدثات لمّا انطلقت من أقلام مختلفة ومن دارسين متعدّدين قد اتّسمت بمناهج مختلفة، ولذا قمت بدراسة مقارنة لها، واستقصيت منها ما أمكن وتوفّر، و لاحظت أنّ قواعد خاصة تحكم هذه الدراسات الفقهية جميعها، وحيث لم تعالج هذه القواعد بشكل مستقلّ سعيت لتتبّع هذه القواعد والتأسيس لها، فكانت أوراق هذا الكتاب.
وليس المراد هنا أنّ للموضوعات المستحدثة طريقة استنباط منفصلة أو مستقلّة عن الاجتهاد الفقهي السائد، بل هي لمّا كانت مستحدثة ـ بما تحمله هذه الكلمة من معنى الجدة أو الحداثة ـ كان لا بدّ لها وأن تفرض نمطاً في العلاج يختلف عن نمط المسائل المتعارفة.
وفي ختام هذه المقدّمة، لابدّ لي أولا من أن أتوجّه بالشكر الجزيل إلى الإخوة في معهد الفقه و الحقوق التابع لمكتب الإعلام الإسلامي، لاسيّما من أتعب نفسه فقرأ صفحات هذا الكتاب و علّق عليها، بما كان مفيداً في تطويره و ترقّيه، كما أرغب في أن أهدي هذا الجهد المتواضع إلى والدي العزيز سماحة العلاّمة السيد عباس علي الموسوي، وقد شملني برعايته الأبوية في حياتي العلمية والعملية، وما دوّنته كان ببركة حثّه الشديد لي على الكتابة، فجزاه الله خيراً.
علي السيد عباس الموسوي
الأربعاء 3 جمادى الأولى 1427 الموافق 31 أيار 2006
انطلاقاً من ضرورة ترتيب البحث بنحو منهجي، كان لا بدّ لنا من أن نستعرض بعضاً من المفاهيم الأساسية التي ترتبط بالبحث، لا سيّما مع اختلاف المتداول في الدراسات التي تناولت المسائل المستحدثة، وكذلك بيان المنهج المعتمد في هذا الكتاب.
1. المسائل المستحدثة: تشغل المسائل المستحدثة حيّزاً مهمّاً من دائرة البحث الفقهي، فهي مسائل محلّ ابتلاء يكثر السؤال عنها، وهي متجدّدة دائماً; لارتباطها بالتطوّر العلمي والتقني الذي تعيشه البشرية اليوم، وقد يعبّر عنها بالمسائل المستجدّة أو النوازل الفقهية.
ولا بدّ لنا أن نقف بدايةً أمام التعريف المطروح لهذه المسائل، فقد عُرّفت المسائل المستحدثة بأنّها: «هي كلّ موضوع جديد يُطلب له حكم شرعي، سواء لم يكن في السابق أو كان لكن تغيّرت بعض قيوده، فالأول من قبيل النقود الاعتبارية التي لم تكن قبل، والثاني من قبيل اعتبار المالية لبعض الأعيان النجسة والتي لم
تكن لها مالية في الماضي»(1).
لكن ثمة رأياً آخر يتحفّظ على هذه التوسعة في ضابطة المسألة المستحدثة، ويخصّ ذلك بكون الموضوع ممّا لم يعقل وجوده خارجاً في عصر النصّ،ّ يقول: «فالذي ينبغي أن يُعدّ ضابطاً للمسائل المستحدثة هو كون الموضوع ممّا لم يعقل وجوده خارجاً في عصر النصّ كي يبحث عن شموله له، وذلك مثل ترقيع اليد وتركيبها على فاقدها، فإنّه لم يكن أمراً متصوّراً، أعني ممكناً في أنظارهم»(2) فالمدار في هذه الضابطة هو عدم المعقولية، بمعنى عدم الإمكان، أو قل: استحالة ذلك.
وبناءً على هذا التضييق، فإنّ المسائل التي لا تكون متعارفة الوقوع في الأزمنة السابقة، لا ينبغي حسبانها مسألةً مستحدثةً بعد ما كان موضوعها بحيث لو وجد في السابق أو رآه بعض أهل تلك الأزمنة لعبّر عنه بالتعبير الوارد في النصّ، والذي هو الضابط في الاندراج تحت المطلقات.
إنّ نظر هذا القائل لمّا كان إلى ملاحظة إطلاق الأدلّة، اعتبر أنّ الضابطة في الحقيقة ـ وإن لم يُصرّح بذلك ـ هي الاندراج تحت إطلاقات الأدلّة وعدمه، فإذا اندرج تحت إطلاقات الأدلّة امتنع عدّه من المسائل المستحدثة.
ولعلّ ما يؤخذ على هذا الكلام هو أنّه: لمّا كان ناظراً إلى إطلاقات الأدلّة، امتنع عليه إدراج كثير من المسائل تحت عنوان المسائل المستحدثة، ولأجل ذلك اعتبر أنّ مثل إعطاء وحدات الدم للإنسان، أو السفر بالوسائط الحديثة... ليس من المسائل المستحدثة!
2 . القائيني، الشيخ محمد، المبسوط في فقه المسائل المعاصرة، ج 1، ص 19.
ولكن السؤال المطروح هنا: هل من الصحيح اعتبار الاندراج تحت إطلاقات الأدلّة وعدمه معياراً؟ وكيف يصحّ ذلك إذا كان إرجاع كلّ المسائل المستحدثة لا بدّ وأن يكون إلى الأدلّة الشرعية لتشملها بإطلاقاتها؟
والطريق الصحيح للخروج بضابطة ما هو أن نلحظ ما بحثه الفقهاء تحت عنوان كونه من المسائل المستحدثة، وهذا الضابط ببساطة تامّة هو عبارة عن كلّ ما لم يتعرّض له الفقهاء من موضوعات مستجدّة، سواء دخل تحت إطلاقات الأدلّة أو لا، والبحث في المسائل المستحدثة يكون عن تحديد دخوله تحت الإطلاقات، أو قل: بيان حكمه من خلال ملاحظة الأدلّة الشرعية. ولأجل ذلك نجد أنّ السيد الخوئي يعلّل رفضه لبعض دعاوى الإجماع والاتفاق بين الفقهاء بكون المسألة مستحدثة لم يتعرّض لها الفقهاء(1)، كما يُدرج بعض المسائل تحت عنوان كونها مستحدثة من جهة عدم الابتلاء بها في الأزمنة السابقة; كمسألة العجز عن الذبح في منى(2).
هذا، وقد تمّ تداول مصطلحين في الأبحاث الفقهية حول المسائل المستحدثة، وهما (التخريج الفقهي) و (التكييف الفقهي)(3) والمصطلح الأول هو الأكثر رواجاً في مدرسة الفقه الإمامي.
2. التفريع الفقهي: يمكن القول إنّ منشأ هذا الاصطلاح هو روايتان ورد فيهما التعبير بالتفريع، والروايتان هما:
الأولى: عن كتاب هشام بن سالم، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «إنّما علينا أن نلقي إليكم الأصول، وعليكم أن تفرّعوا»(4).
2 . الخوئى، السيد أبوالقاسم الموسوي، المرجع السابق .
3 . سنأتي على التعريف بهما عن قريب .
4 . الحرّ العاملي، الشيخ محمد بن الحسن، وسائل الشيعة، باب 6 من أبواب صفات القاضي، ح 51، ج 27، ص 62 .
و الثانية: عن كتاب أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن الرضا(عليه السلام) قال: «علينا إلقاء الأصول، وعليكم التفريع»(1).
والمراد من مصطلح (التفريع الفقهي) في كلمات الأصوليّين من الإمامية ليس سوى عملية الاجتهاد الفقهي والاستنباط ضمن ما هو متعارف من طرق الاستنباط في المدرسة الإمامية، وفي هذا المجال يمكننا ذكر ما أورده الإمام الخميني لبيان مصطلح (التفريع الفقهي) يقول: «لا ريب في أنّ التفريع على الأصول هو الاجتهاد، وليس الاجتهاد في عصرنا إلاّ ذلك، فمثل قوله: «لا ينقض اليقين بالشكّ» أصل، والأحكام التي يستنبطها المجتهدون منه هي التفريعات، وليس التفريع هو الحكم بالأشباه والنظائر كالقياس، بل هو استنباط المصاديق والمتفرّعات من الكبريات الكليّة، فقوله: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدي»، و «لا ضرر و لا ضرار» و «رفع عن أمّتي تسعة»، وأمثالها أصول، وما في كتب القوم من الفروع الكثيرة المستنبطة منها تفريعات، فهذا الأمر كان في زمن الصادقوالرضا(عليهما السلام) مثل ما في زماننا، إلاّ مع تفاوت في كثرة التفريعات وقلّتها، وهو متحقّق بين المجتهدين في عصرنا أيضاً»(2).
نعم، مفردة (التفريع الفقهي) لم يتمّ تداولها كثيراً في تعبيراتهم، بل كلمة (الاجتهاد) أكثر تداولا في التعبير عن هذا المعنى.
3. التخريج الفقهي: تمّ تعريفه بـ : «استخراج شيء من مداق أحوال الأدلّة والمدارك وغوامضها بالنظر التعقّبي (النظر الدقيق البرهاني) بعد النظر الاقتضائي (الأوّلي)، واستنباط حكم جزئي بخصوصه خفيّ من دليل بعينه من الأدلّة، كتاب أو سنّة مثلا، غير منسحب الحكم على ذلك الجزئي في ظاهر الأمر، وجليل النظر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2 . الإمام الخميني، السيد روح الله الموسوي، الاجتهاد والتقليد، ص 72.
بتدقيق النظر الفحصي فيه; ليستبين اندراج هذا الجزئي في موضوعه. وهذا معنى قولهم: تعدية الحكم من المنطوق إلى المسكوت عنه من غير أن يكون قياساً»(1).
لا يبتعد تعريف (التخريج الفقهي) في الحقيقة عن تعريف عملية الاستنباط; لأنّه يُعرّف أيضاً بأنّه استخراج الأحكام من الأدلّة الشرعية(2) ولعلّ استخدام هذا المصطلح لأنّ المسائل المستحدثة فيها نوعٌ من الخفاء أشدّ ممّا هو في المسائل التي بحثت من قبل الفقهاء السابقين.
4. التكييف الفقهي: وهو مصطلحٌ مستخدم قانونياً أيضاً، ويعنون به تحديد طبيعة العلاقة القانونية(3)، والتعريف القانوني الأكثر تفصيلا له هو أنّه «تحديد القاضي الطبيعة القانونية للعلاقة ذات العنصر الأجنبي المعروضة أمامه بغية إخضاعها لقاعدة الإسناد التي تعين القانون الواجب التطبيق بالنسبة لها»(4) والمراد من العنصر الأجنبي هو المسألة المستجدة.
وأمّا في الاصطلاح فالتكييف الفقهي (adjustment or framing) هو تحرير المسألة، وبيان انتمائها إلى أصل معيّن معتبر(5).
وعرّفه آخر بأنّه: «إلحاق عقد بعقد معيّن شبيه به من العقود التي عرّفها الشارع، وعندئذ يُعطى العقد الملحق الحكم الذي رتّبه الفقهاء على العقد الملحق به من صحّة أو بطلان وفساد»(6). وهذا التعريف يحدّد التكييف الفقهي بدائرة المعاملات، ولكن استخدامهم لهذا المصطلح أوسع دائرةً من ذلك، ولذا يعرّفه القرضاوي بأنّه:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2 . فتح الله، أحمد، معجم ألفاظ الفقه الجعفري، ص 50.
3 . الفاروقي، حارث سليمان، المعجم القانوني، ص 120، ق 1.
4 . كرم، عبدالواحد، معجم مصطلحات الشريعة والقانون، ص 130.
5 . قلعه چي، محمد رواس و قنيبي، حامد صادق، معجم لغة الفقهاء، ص 143.
6 . الحفيف، علي، شهادات الاستثمار، ص 11 (هدية مجلّة الأزهر ربيع الثاني، 1417).
«تطبيق النصّ الشرعي على الواقعة العملية»(1).
ولعلّنا نستطيع أن نلتمس من خلال هذه التعاريف الفارق بين التكييف الفقهي والتخريج الفقهي، بأنّ الأول هو انطلاق من الواقعة إلى النصّ أو القاعدة لإدراجها ضمنها، وأمّا الثاني فهو انطلاق من النصّ أو القاعدة الى الواقعة لتطبيقها.
5. الأصل والقاعدة: نظراً لكون البحث يتناول تحديد تلك القواعد والأصول المعتمدة في بيان حكم المسائل المستحدثة، نجد من المفيد أن نتعرّض بالحديث للمراد من مفردتي (القاعدة) و (الأصل).
إنّنا نجد في كثير من كلمات الفقهاء التعبير عن القاعدة بالأصل(2)، ولكن استخدام الفقهاء لمفردة (الأصل) متعدّد المعاني، وقد ذكر ذلك صاحب الحدائق قال: «إعلم أنّ الأصل كما ذكره جملة من الفضلاء يُطلق على معان: أحدها: الدليل، كما يقال: الأصل في هذه المسألة الكتاب والسنّة، وثانيهما: الراجح; كقولهم: الأصل في الكلام الحقيقة، وثالثها: القاعدة; كقولهم: الأصل في البيع اللزوم، والأصل في تصرّفات المسلمين الصحّة، ورابعها: الاستصحاب; كقولهم : إذا تعارض الأصل والظاهر فالأصل مقدَّم»(3).
والذي يبدو أنّ إطلاق مفردة (الأصل) على هذه المعاني المتعدّدة إنّما هو بلحاظ المعنى اللغوي، ومن هنا ذهب بعضهم فى بيان معنى كلمة «اصول» إلى الالتزام بالتالي: «والظاهر أنّ هذه المعاني وإن تعدّدت في بدو النظر في اصطلاح الفقهاء، إلاّ أنّ رجوعها إلى المعنى اللغوي غير بعيد. ومنشأ التعدّد في ألسنتهم اختلاط المفهوم بالمصداق على الكثير،
2 . الشهيد الثاني، زين الدين العاملي، مسالك الأفهام، ج 5، ص 175; النجفي، الشيخ محمد حسن، جواهر الكلام، ج1، ص 134 .
3 . البحراني، الشيخ يوسف، الحدائق الناضرة، ج1، ص 41.
ممّا حملهم على دعوى الاشتراك اللفظي بينها. وإذا كان ولابدّ من دعوى التعدّد في مفهومها فالذي نراه أعلق بالمفهوم الذي نريد تحديده للعنوان هو كلمة القواعد»(1).
فما نعالجه نحن أيضاً في هذا البحث هو عبارة عن تلك القواعد بمعنى الأصول والأسس المعتمدة في استنباط حكم المسائل المستحدثة، سواء كانت دليلا مباشراً، أو أصلا عملياً، أو قاعدةً متصيّدةً من الأدلّة.
يعتمد البحث في المسائل المستحدثة ـ ضمن ما درسناه ولاحظناه من دراسات تناولت المسائل المستحدثة ـ على البحث في الأدلّة لمعرفة حكم الواقعة، ولكن لمّا كانت من الصفات التي تتّصف بها المسألة المستحدثة أنّها ليست منصوصة بالنّصالجلي، بل كان سعي الفقهاء في البحث عنها إلى استنطاق النصوص والأدلّة الشرعية، كان سير البحث فيها يعتمد على المنهجية التالية:
أولا: البحث عن الحكم الأولي للواقعة المستجدة.
ثانياً: البحث عن الحكم الثانوي للواقعة المستجدة.
ثالثاً: البحث عن الحكم الولائي للواقعة المستجدة.
وهذا الترتيب هو الذي سوف يُشكّل العناوين الرئيسة لهذه السطور، على أنّ ممّا لا بدّ منه هو البحث عن تحديد هذه الأنواع الثلاثة للحكم مقدّمة للبحث.
أمّا (الحكم الأولي) فهو الحكم المجعول للشيء بواقعه من دون ملاحظة
ما يطرأ للشيء من عوارض(2)، وهو الذي ينقسم إلى الواقعي والظاهري، والى التكليفي والوضعي.
2 . الحكيم، السيد محسن، حقائق الأصول، ج 1، ص 507 ; فتح الله، أحمد، معجم ألفاظ الفقه الجعفري، ص 166; المشكيني، الشيخ علي، اصطلاحات الأصول، ص 73.
وأمّا (الحكم الثانوي) فهو الحكم المجعول للشيء بلحاظ العناوين الطارئة عليه، وهي عناوين خاصة بحثها الفقهاء; كالاضطرار والإكراه والعسر والحرج... وغير ذلك، وهو أيضاً ممّا ينقسم إلى الواقعي والظاهري.
وقد اختلفت أنظار الفقهاء في بيان العلاقة بين الأحكام الأولية والأحكام الثانوية، فتبنّى بعض الفقهاء; كالسيد الخوئي، كونها علاقة الحكومة، ويُرجع الحكومة إلى التخصيص من جهة أنّ الحكومة هي: «التخصيص واقعاً، غاية الأمر أنّها نفي للحكم عن موضوعه بلسان نفي الموضوع وعدم تحقّقه»(1)، فالأحكام الثانوية تخصّص الأحكام الأولية. وبعضهم ذهب إلى كون الأحكام الثانوية حاكمة على الأحكام الأولية، ومثّل لذلك بموارد الضرر، فإنّ قوله(صلى الله عليه وآله وسلم):
«لا ضرر ولا ضرار» أي: لا حكم ضرري أو لا فعل ضرري، وعلى الأول: لا حكم يكون ناظراً إلى أدلّة الأحكام الأولية، وعلى الثاني: لا فعل يكون نافياً لموضوعها ومقيّداً لدائرتها(2).
وأمّا (الحكم الولائي) وهو المعبّر عنه بالحكم الحكومتي، فهو عبارة عن الحكم الصادر من الحاكم من جهة كونه وليّاً وحاكماً، أي: لمن له ولاية الأمر والنهي.
وختاماً، فإنّ الهدف الذي رجوناه من هذا البحث هو تسليط الضوء على الطريقة المعتمدة والمتّبعة عند الفقهاء في تحديد حكم المسائل المستحدثة، وبيان منهجهم في معالجة تلك المسائل; لأنّ طبيعة هذه المسائل لجهة كونها مستحدثة تفرض على الفقيه علاجات خاصة، وهذه العلاجات الخاصة هي التي شكّلت مادة البحث،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2 . المشكيني، الشيخ علي، اصطلاحات الأصول، ص 127.
ولذا قمنا بدراسة مجموعة كبيرة من الدراسات الفقهية التي تناولت هذه المسائل، وسعينا لكي نلحظ طريقة الفقهاء والباحثين في علاج أحكام هذه المسائل، وبهذا نكون قد أدّينا دوراً ما في تطوير النظر إلى هذا الموضوع المهمّ. إضافة إلى ما قد يؤدّيه هذا البحث من وظيفة في الوصول إلى علاجات جدّية لهذه الموضوعات، بما يكفل بيان مدى استجابة الفقه لمتطلّبات الحياة الإنسانية المعاصرة.